ثم ينتقل المصنف رحمه الله إلى الإلزام الآخر يقول: [فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله، والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله إلا بذلك؟!] فلا يمكن الإقرار بوجود الله -سبحانه وتعالى- مع نفي علو الله، فالإيمان بوجود الله تبارك وتعالى يقتضي ويستلزم الإيمان بعلوه، فمن آمن بوجود الله تحتم عليه أن يؤمن بأنه تعالى فوق الموجودات، عالٍ عليها جميعاً.. هذا أمر بدهي في العقول والفطر والأديان.
ولا تسمعوا لأقوال الجهال، كما قال بعضهم في شريط له: (إذا أنا أطعته فلا يهم أن يكون فوق أو لا يكون فوق، أوله يد أو ليست له يد) تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! وهذا الكلام أحسن ما يقال في صاحبه أنه جاهل، وإلا فهو مبطل معاند مخادع ماكر، وهو مثل من يقول: (لا يضرني مادمت أعبده أنني لم أعرفه).
فسبحان الله! تعبد من لا تعرف؟! وما عُبدت الأصنام، وما عبدت الأضرحة والقبور، وما عبد البشر، وما عبدت الأحجار والكواكب، إلا لأن عُبَّادها تخيلوا فيها صفات الكمال.
فمن يعتقد أن الله -سبحانه وتعالى- يخلق ويرزق وينفع ويضر ويحيي ويميت، فإنه يعبد الله، ومن يعتقد أن مخلوقاً من المخلوقات يفعل ذلك، فإنه سوف يعبده من دون الله أو مع الله، ولما اعتقد عباد الشمس والكواكب أن للشمس وللكواكب تأثيراً، عبدوها، ولما رأى عباد النار قوة النار، وتخيلوا لها تأثيراً لضيائها وإحراقها، عبدوها.
وعلى قدر معرفة المعبود تكون عبادة العابد، وأعظم ما في ديننا وأشرفه معرفة الله سبحانه وتعالى؛ فيجب على كل مسلم أن يعرف صفاته سبحانه وتعالى، ويعبده وحده حق عبادته بناءً على تلك المعرفة، فالذي لا يعرف الله تعالى حق معرفته ولا يقدره حق قدره، فإنه لن يعبده حق عبادته.
فقوم نوح عليه السلام -وهم أول من أحدثوا الشرك في دين الله، وعبدوا الأصنام- كانوا لا يعرفون الله ولا يعظمونه؛ لجهلهم بصفاته، قال تعالى على لسان نوح عليه السلام في خطابه لهم: ((مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا))[نوح:13].
وكذلك اليهود ما قدروا الله حق قدره، وقالوا في الله ما قالوا؛ قال تعالى عنهم: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ))[الأنعام:91].
بل كل من يعصي الله سبحانه وتعالى، فإنه لم يعرف الله على الحقيقة، ولو كان حقاً يؤمن بالله على الحقيقة، ويعلم أن الله تعالى مطلع على كل شيء، ويؤمن بوعده ووعيده، وأنه سبحانه الرقيب الحفيظ، ما كان له أن يعصيه؛ قال تعالى: (( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ))[فاطر:28]^.
فمن هنا يتضح أن كلام هذا الذي ينتقص العلم بصفات الله هراء لا يحتاج إلى الرد، فإنه لا يمكن الإقرار بوجود الله تعالى إلا بإثبات صفاته، ومن أظهرها وأجلاها إثبات علوه سبحانه وتعالى.
ونحن حين ندخل في هذه القضايا التي فيها الرد على هؤلاء المتكلمين نجد فيها صعوبة لا يمكن للأذهان أن تحتملها إلا بمشقة، فالإنسان العادي لا يمكن له أن يقرأ في كتب الفلاسفة أو كتب الأشاعرة، ومن أوضح وأبسط كتبهم شروح جوهرة التوحيد في عقيدة الأشاعرة، فإنها تدرس في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، فإذا قرأت شيئاً منها، وجدت كلاماً لا يمكن أن يفهم، على عكس ما جاءت به نصوص الشرع من وضوح ويسر.
ولما كتب علماء السنة الكتب المطولة في الرد على علماء الكلام؛ تعرضوا لتلك المباحث الصعبة التي شحن بها الفلاسفة والمتكلمون كتبهم؛ لأنهم كانوا مضطرين إلى أن يدفعوا شراً قد وجد، كما في كتاب درء تعارض العقل والنقل لـشيخ الإسلام رحمه الله، وأمثال ذلك؛ فهم يكتبونها ويستدلون بهذه الأدلة العقلية لإبطال أقوال المخالفين؛ لأن أقوال هؤلاء المتكلمين عامة ظاهرة منتشرة متلوة مدروسة، لو كان الأمر مقتصراً على فلاسفة اليونان لقلنا: قد بادوا واندثروا وذهبوا، وكذلك لو كان مقتصراً على شذاذ، لقلنا: لا نحتاج إلى الرد عليهم، لكن ونحن في هذا العصر ما زال هناك من ينكر الصفات، ويحتج بحجج أولئك المتكلمين كـالمعتزلة والأشاعرة، وربما لقيك أحدهم فجادلك وقال: كيف تثبت العلو وهو يستلزم الجهة والحيز؟!
ولذلك كان لابد أن نفقه ونفهم الأدلة وإن كانت عقلية بحتة؛ لأننا نحتاج إليها حين نقرأ كتب هؤلاء أو نقابلهم، وعلى كل حال، فالأدلة العقلية عند أهل السنة والجماعة ظاهرة وواضحة ولله الحمد.